الدورة العربية ومسؤولية النقد

الدورة العربية ومسؤولية النقد

1

د . هادي عبدالله

اختتمت في منتصف تموز الجاري شررا ولهبا لم تشهد له الكرة الأرضية مثيلا بشهادات العلماء , مسابقات دورة الألعاب العربية الخامسة عشرة في الجزائر الحبيبة وقد احتل العراق فيها المركز التاسع من بين الأقطار ال22 المشاركة .. وهو مكان لا أرى فيه بخسا للعراق ورياضته ونحن نضع الأمور في ميزانها المنطقي الخالي من أثقال الاحكام المسبقة , هذا الميزان الذي نزن به كل مفردات الشأن العراقي قي تقلب الحياة يوما بيوم , لذا وبرغبة مخلصة بالتغريد خارج سرب المتطيرين المتشائمين أقول ان المشاركة العراقية في الدورة العربية كانت بتقدير جيد , مما يعني ان جهدا كبيرا يجب ان يبذل في تقويم مشاركة كل لعبة ..

هذه نقطة البداية التي لن استرسل بعدها الا بعد ان ننهل سوية من نبع فكر موسوعة الابداع الرياضي استاذنا الراحل البروفسور نجم الدين السهروردي وهو يكتب مبحثا عن النقد الرياضي الذي ستضمه الموسوعة المزمع إصدارها باذنه تعالى قريبا عن الاكاديمية الأولمبية العراقية , فليس كل ناقد رياضي هو اعلامي رياضي ولا كل اعلامي رياضي هو ناقد رياضي , فلكل من الفنين شروطه وان اجتمعا تحت خيمة الاهتمام بالرياضة ..

كتب السهروردي عن النقد الرياضي :

” النقد الرياضي الحقيقي ينبغي أن يكون نقداً مستقلاً بعيداً عن المؤثرات والاتجاهات الضاغطة، أياً كان مصدرها، ليُحدث عمليتي التغيير والتطوير الموضوعيين، لإرساء اتجاهات فكرية هادفة وافية، تقي وتنشئ وتعالج وتتابع وتقوّم.

إن النقد، أيا كان نوعه ومستواه، من حيث المبدأ، ينبغي أن يكون لاحقاً للنتاج، أدبياً كان أم فنياً أو رياضياً. ذلك، لأن النقد، إنما هو عملية تقويم لعمل سبق وجوده وممارسته. من هنا تأتي أهمية عملية النقد بصورة عامة، ومهمة النقد الرياضي بصورة خاصة.

وقبل أن نخوض في أبعاد هذا المبحث الذي تفتقر له وسائل الإعلام الرياضية عربياً، لا بد لنا أن نقف على المعاني اللغوية والمهنية للكلمة، اشتقاقها ومفهومها.

بقي أن نتساءل: من هو الناقد؟ ما مستواه؟ ما مكانته العلمية والاجتماعية والفنية والمهنية والسلوكية؟ ثم: أي نقد يريد؟ وأي نقد نرید؟ 

نريد نقداً خلاقاً، نقداً يدعو لنتاج أفضل، نقداً له صفاته ومميزاته وخصائصه المتكاملة الأطراف. ومثل هذا النقد، لا بد وأن يصدر بعد رصد دقیق ومدروس للتيارات الفكرية والفنية والإنسانية وعلى جميع المستويات والصعد. ويينغي بل يجب أن يخدم القضايا العالمية والقومية والوطنية. بمعنى أدق، ينبغي أن يكون الناقد راصداً مقتدراً، راصداً مقوماً، أميناً على تحقيق الأهداف التي من أجلها وجدت الصحافة الرياضية.

حين نتحدث عن النقد، إنما نقوم بعملية تقويم أمر ما وفق “معايير ومقاييس” ذات قيمة فنية وأدبية ومهنية. بمعنی آخر: ينبغي أن يكون النقد “الميزان” أو “الفيصل” الذي به نقيس ونقوّم. من هنا ينبغي أن نبدأ.

إن النقد، في ضوء ما تقدم، عملية دقيقة وحساسة. لذلك، يجب أن يكون الناقد ذو مستوى رفيع يتصف بما تتصف به “الكلمة” من قيم جامعة مانعة. وعليه “الناقد”، لا بد وأن يرقى إلى المستوى الذي من خلال “نقده” يستطيع أن يُحدث عمليتي التغيير والتطوير.

وبخلافه يعتبر ناقداً فاشلاً لا يُؤخذ بما يقدمه فيوصم “بالعيّاب” الذي ينتقد لأجل النقد، همه جمع الأخطاء وإظهار العيوب وما إلى ذلك من أمور تساعد في عملية الهدم والانتقاص والإحراج وبالتالي الهبوط إلى الحضيض.”

غدا .. نقرأ للسهروردي ما هو النقد البناء وكيف نوظفه ؟

الدورة العربية ومسؤولية النقد

د . هادي عبدالله 

نبقى مع استاذنا البروفسور نجم الدين السهروردي وهو يفصل لنا موضوع النقد لنستند على هذا التفصيل العلمي في بناء رؤيتنا للمشاركة العراقية في دورة الألعاب العربية الخامسة عشرة التي اختتمت في الجزائر في منتصف تموز الجاري ..اذ يقول رحمه الله :

” النقد البناء بمعناه الحقيقي يعتمد من حيث المبدأ على دعامتين أساسيتين هما: التفكير المنطقي والحكم السليم.

إن النقد الرياضي يقوم أولاً في الكشف عن جوانب النضج الفني للمهارات علماً ومعرفة، أصولاً وأداءً، ونتيجةً وقدرةً في التمييز عن سواها، عن طريق التشخيص والتجديد والتوصيف والتعليل والتحليل الموضوعي الأمين، وهو ما نطلق عليه بالتفكير المنطقي. ثم، يأتي بعد ذلك، الحكم السليم والقرار الصحيح. الأمر الذي يتطلب أن يكون الناقد هنا ذا خبرة ومران وتفكير وسعة اطلاع ودراية وثقافة واسعة ومتصلة لكي يأتي حكمه سليماً وعادلاً، بعيداً عن المؤثرات الشخصية والانحياز والمزاجية والعواطف والعواصف التي كثيراً ما تعصف بالقيم والمبادىء الجوهرية لعملية النقد.

مما تقدم، يتضح لنا جلياً، أن النقد الرياضي، يتميز بفاعلية فكرية متفاوتة، نستطيع من خلالها فهم وإدراك المسائل الفنية الدقيقة، خاصة المهارية والسلوكية منها بالمقام الأول وتفسيرها وشرحها بالتحليل والتعليل العلمي والموضوعي؛ لإصدارالأحكام المناسبة بشأنها. أي أن النقد يتطلب الشرح والتعليل والتحليل والتقويم والقدرة على البدائل الممكن تحقيقها، وهذا يتطلب إتساعاً في آفاق الناقد ومداركه الثقافية في الميادين والمجالات الرياضية وفروعها وأقسامها المتعددة، إلى غير ذلك من الجوانب ذات العلاقة. لا كما يفهمه البعض أن يكون هناك نقداً من أجل النقد والعمل على جمع الأخطاء والصيد بالماء العكر.

إن النقد الرياضي الأمين يجب أن يتناول طبيعة العمل الرياضي ووظائفه وخصائصه، ووصف الأنواع الرياضية المختلفة، تاريخها وتطورها ونشأتها، إلى غير ذلك من الأمور التي تستمد قواعدها وأصولها من فلسفة اللعب ونظرياته المختلفة.

إن علاقة الرياضة والألعاب بالنقد، علاقة “ديالكتية” متبادلة. وهي علاقة طبيعية قديمة قدم الرياضة والألعاب، تتأثر ويطور بعضها البعض في مسارها الزمني والفني مخلفة، بحكم التفاعل المتبادل، أحكاماً، أرست خلالها قواعد وأسس، أصبحت متعارف عليها بين الأفراد والشعوب والأمم.

وعند التعمق في دراسة النقد الرياضي في بطون الكتب والآداب التي خلفها العرب في هذا المجال، نجد أن العرب قديماً كانوا أول من أدرك أهمية هذا التفاعل المتبادل بحكم العلاقة الجدلية المتبادلة في النقد والذوق وفي التعبير وصناعته. وكثيراً ما نلمس نتائج هذا التفاعل عند الأدباء والشعراء العرب في وصف ونقد رياضة الصيد والقنص والفروسية واستعمال السيف والرماية والسباحة والعدو وفنون المصارعة وغيرها من ألعاب الفروسية والكرة والصولجان، مثلاً: أن النقد بمفهومه العلمي وأغراضه الخلاقة، قديم قدم تاريخ الإنسان حيث كان ولا يزال أحد مقومات الحضارة العريقة في بناء الأمجاد. وهذه ملحمة جلجامش والفكر الرياضي، التي تعكس بجلاء وصفاً دقيقاً لحكايا بطل جاوز في استغلال قدراته الجسمية والرياضية وبطولاته جميع الأحكام والأعراف الاجتماعية السائدة في (أوروك) الوركاء .

النقد إذن أصول، وأصوله تعتمد على “أسلوب”. وهو صناعة لا بد أن يعتمدها الناقد نهجاً له ليعبر من خلاله عن ما يريد معالجته. فهو، والحال هذه، أدب يتميز عن سواه ممن يمتلك مثل هذه الملكة؛ لكي لا يفقد صلته به (الأدب)، على أن نفرق بين نقد متأثر بالأدب، يستمد الآراء والأحكام النقدية منه، وبين المبادىء التي يقوم عليها كل اتجاه في النقد الموضوعي. لقد اعتمد البعض من النقاد الرياضين “أدب النقد” أساساً وأسلوباً فبالغوا في أبراز ما أريد نقده عبر أساليب أدبية أوجدت معها أساليب متميزة طغت في نهجها الأدبي على ذلك النهج المطلوب، فتأثرت به إلى حد خلّفت معه آثاراً سلبية في مسيرة الحركة الرياضية خاصة حين سيطرت أجهزة الإعلام (المتخصصة بالأدب والصحافة) من غير الرياضيين من جهة، ومن غير المتخصصين في الإعلام الرياضي من جهة أخرى.

ومهما يكن من أمر، فإن ما نعنيه في هذا المجال بالذات، ليس معناه التجني على أهل الإعلام، وإنما أردنا أن نضع النقد الرياضي موضع التنفيذ بحكم غیاب الناقد الرياضي المتخصص بالنقد الرياضي الموضوعي الذي نحاول البحث عنه وصولاً إلى غاياتنا.”

غدا.. اعلامنا والدورة العربية .

الدورة العربية ومسؤولية النقد 

د . هادي عبدالله 

في المقالين السابقين استعرضنا مفهوم النقد الرياضي تفصيلا كما بحثه البروفسور نجم الدين السهروردي الذي فضلا عن الجانب الاكاديمي في شخصيته , فهو اعلامي رياضي اذ اصدر عام 1950 جريدة الرياضي وحصل على امتياز مجلة الهدف الأسبوعية عام 1958 وكتب في صحيفة الزمان البغدادية واحدا واربعين مقالا في زاويته ” نحو الهدف ” وكان خبيرا في مجلة الرياضي العربي الكويتية في ثمانينات القرن الماضي وله فيها أعمدة صحفية ومقالات نقدية رياضية , وفي سيرته التي بخط يده ان مقالاته ودراساته الرياضية زادت على الالف فضلا عن كتبه العشرين وغيرها من الكتب التي ظلت مخطوطة .

نذكر هذه النبذة لنزداد إطمئنانا من صلابة القاعدة التي ننطلق منها في تحديد مفهوم النقد الرياضي وكيفية ممارسته , وتأسيسا على هذه القاعدة نرى ان من تابعنا نقدهم للمشاركة العراقية في دورة الألعاب العربية التي اختتمت في الجزائر منتصف تموز الجاري انما تناولوا الموضوع من الزاوية الإعلامية التي لا تخفى فيها ملامح الانعكاس العاطفي , فتراهم صاحوا وناحوا على ما آلت اليه الرياضة العراقية وكأن المركز التاسع وصمة عار من غير شرح ولا تحليل ولا تعليل ولا استنتاج لما حدث في الجزائر وذلك بعد ان وضعوا كل الألعاب التي شارك فيها العراق في سلة نقد عاطفي واحدة .

لقد اعتمدت الدورة 22 نوعا من الرياضة شارك العراق في 13 منها وحصل على 45 وساما منها سبعة ذهبية و 18 فضية و20 نحاسية , ليحجز المركز التاسع من بين 22 قطرا ..لاشك ان الطموح بحصد المزيد من الاوسمة امر لا جدال فيه , وان فرصا قد ضاعت أيضا فرض صحيح يستحق التدقيق , وهناك فروض أخرى قد تستحق دراسات رصينة لتبين عللها , ولكن من تصدى الى النقد بحدود ما اطلعنا عليه وضع المشاركة في جانبها الفني , أي المسابقات في كل الألعاب في سلة واحدة من غير ان يميز اويفسر الخلل في هذه اللعبة او تلك , وما هي عناصر الإخفاق وماهي أسباب هذا الإخفاق بعد ان يقدم شيئا عن تاريخ اللعبة عبر مشاركات سابقة ويقابل اليوم بالأمس وما آلت اليه الأمور على مستوى التنافس بين اللاعب العراقي وشقيقه العربي , واي الألعاب ارتقت وايها انحدرت بالنسبة للعراقيين او لأشقائهم وماهي عوامل الارتقاء وما هي أسباب الانحدار , وما هي علاقة كل من الارتقاء والانحدار بجوانب الحياة مجتمعة هنا وهناك .

ان الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب حضور ناقد عليم متخصص في كل لعبة او على الأقل في ضرب محدد من الألعاب , فالتعميم في هذا الموضع ليس من شيم الناقد الموضوعي , اذ يمكن للاعلامي الرياضي ان يجمل وجهة نظره بما تحتويه كنانته من سهام تصوب لهذا الإخفاق او ذاك , وفي هذه الحالة لا ترتقي العملية الإبداعية الى مرتبة النقد الموضوعي وانما ستقع في ساحة ادب النقد وما فيه من عناصر جذب وتشويق للقارئ والسامع ..لاسيما تلك السهام التي تدغدغ العواطف بما تتحدث عن أموال تهدر واسرار تنشر وذنوب لا تغتفر , من غير حجج وأرقام ووثائق تؤيد ما يكتب او يقال , من غير ان نبرئ الرياضة العراقية وفي كل بقاع الأرض من هفوات الجهل وتسلق الطارئين وفساد المفسدين , وقد فصلنا هذه الامراض وغيرها في كتابنا الذي صدرعن الاكاديمية الأولمبية العراقية بعنوان ” الرياضة والبيئة ” العام الماضي . 

مشاركتنا في دورة الألعاب العربية الخامسة عشرة تحتاج , الى ناقد موضوعي متمكن من أدواته الفنية , كما يجب على الجهات المسؤولة عن المشاركة ان تضع كل الوثائق التي تمخضت عنها اجتماعات ما قبل المشاركة وما بعدها امام الاعلام الرياضي بكل دقة وثقة , كي لا يؤثر الإعلامي الرياضي سلبا على الناقد الرياضي في استخلاص النتائج ..

ختاما ..اكرر تقديري للمشاركة ..انه جيد …

Tags: No tags

Comments are closed.