قراءة متسلسلة في كتاب (الاعلام وصناعة البطل) لمؤلفه د.هادي عبد الله مدير الاكاديمية الاولمبية العراقية

الملحمة .. الاعلام

كما ان جلجامش اول بطل في التاريخ , فإن الملحمة المسماة باسمه بألواحها الأثني عشر كانت فضلا عن مكانتها الأدبية , اول  محتوى اعلامي منوع في التاريخ ومن بين فقرات هذا المحتوى ما يخص الرياضة , اذ وصفت الملحمة وصف فنيا دقيقا نزال المصارعة للبطل جلجامش , جاء فيها :

تلاقيا في سوق البلاد

أي ان النزال كان له مكانا محددا

” أمسك أحدهما بالآخر وهما متمرسان بالصراع “

وهذا وصف يؤكد طريقة المصارعة بالمسك واستعمال الايدي , أي هناك قواعد متفق عليها

” وتصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين “

” حطما عمود الباب وارتج الجدار

وظل جلجامش وانكيدو يتصارعان كالثورين الوحشيين

وحين انثنى جلجامش وقدمه ثابتة في الأرض ليرفع أنكيدو  هدأت سورة غضبه , واستدار ليمضي “

ان البطل جلجامش الذي استطاع ان يرفع خصمه انكيدو وقدمه ثابتة في الأرض , يبدو انه وصل الى نهاية الصراع الذي يقضي برفع الخصم ثم طرحه ارضا على ان تكون القدمين ثابتتين .

ان هذا الوصف الدقيق يعبر بأمانة عن ذلك النزال التاريخي , فهو وصف لأول نزال مصارعة موثق في التاريخ بين بطلين قويين وعلى وفق شروط معلنة .. انها اول مباراة رياضية سجلت في تاريخ الحضارات .( السهروردي : 69 )

وهذا يعني ان الملحمة دونت اول مباراة رياضية , فكانت – بحق – اول محتوى اعلامي رياضي في التاريخ , ان زمن تدوين الملحمة يرقى الى مطلع الالف الثاني ق. م ., أي الى العهد المعروف في تاريخ حضارة وادي الرافدين بمصطلح العهد البابلي القديم ( 2000 – 1500 ق. م. )والذي تميز بحركة كبرى في التأليف والجمع والتصنيف في شتى صنوف المعارف والعلوم والآداب . والمرجح ان الملحمة صارت في شكلها النهائي ما بين العصر البابلي القديم والعصر الكشي ( 2000 – 1200 ق.م ) وعلى وجه التخصيص في حدود ( 1250  ق. م .)  على يد الجامع الذي ورد اسمه بهيئة ” سين – ليقي – أونني ” ( طه باقر : 56 ) وبذلك فان هذا المحتوى الإعلامي الرياضي سبق بقرون الأناشيد الأولمبية .

تلك الأناشيد

 التي كان يؤلفها الشاعر الاغريقي بنداروس , وهو شاعر غنائي عاش في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد وعلى الرغم من ان له مؤلفات كثيرة الا ان أروع ما كتب هو أناشيد النصر لمدح الفائزين في الدورات الأولمبية  ( محيي الدين مطاوع : 141 )

تروي الملحمة في اللوح السادس نصوصا خاصة بالبطولة والفروسية والمصارعة , وقدت وجدت نسخا من الملحمة في أماكن متفرقة من مدن ذلك الزمان مما يشير الى انتشارها لاسيما الروايات الشفوية التي لاشك تنتقل بأسلوب ما يسمى في مصطلحات عصرنا ” الاتصال على مرحلتين ” أي هناك من يقرأ او يسمع الملحمة ثم ينقلها الى الاخرين وهكذا .

ان جلجامش بطل حقيقي تحول الى اسطورة ثلثه انسان وثلثاه آلهة , كما اسطورة برج بابل وغيرها , فالناس تتناقل الأسطورة من جيل الى جيل وكان اجدادهم قد تسنى لهم العيش في ظلال تلك المعابد ومشاهدة الكهنة يصعدون سلالم الأبراج ( الزقورات ) وينزولون منها  حقيقة ( رونالدو وولي : 69 )

مع تباعد الزمن تحولت الحقائق الى اساطير ورموز , فالعقل البشري محتاج بطبيعته الى الرموز , فالمعرفة البشرية الإنسانية بالضرورة هي معرفة رمزية , وهذه الخاصية تضفي عليها صفتي القوة والتحديد , كما انها تكسب حياة الانسان دائما مزيدا من الثراء والتطور والتجديد ,وفي هذا يتفق الانسان في الزمن القديم مع الانسان الحديث , الا ان الأخير يضع حدا فاصلا بين الرمز والشيء , اما الأول فلم يميز بين الرمز والشيء ( نبيلة إبراهيم : 76 ) .

ولابد ن الإشارة الى ان الأناشيد

 الأولمبية للشاعر بنداروس كانت تتضمن , اعلان الفوز ثم سطور انتقالية ثم الأسطورة وهي أهم جزء في الانشودة (مطاوع :  145 )

وقبل طي صفحة التاريخ ,لابد ان نشير الى انه ورد في تقويم بابلي عن شهر آب ( أغسطس ) انه شهر جلجامش الذي تقام فيه المصارعة بين الرياضيين على مدى تسعة أيام ( طارق الناصري : 14 ) .

وهذا دليل على تكريم البطل جلجامش كما تقام اليوم دورات وبطولات باسم مشاهير الرياضيين في ألعابهم .

يولد البطل ام يصنع ؟

لا هذه ولا تلك , فالأنسان يولد بصفات بدنية و نفسية معينة تكاد لا تتماثل  بين إثنين من بني آدم مثل ما هي بصمة العين وبصمة الابهام , ولكن قد تكون متقاربة في بعدها العام لدى اشخاص ,  من قبيل البسطة في الجسم والحكمة , والكثير من الصفات تكتسب بالتربية والتنشئة ..وهذا يعني ان البطل يولد ويصنع , اذ ليس ممكنا ان يصنع بطل لم ينعم الله تعالى عليه بصفات البطولة , والبطولة هنا نعني بها التميز عن الاخرين وتحقيق ما لا يستطيع غيره تحقيقه ممن نشأوا معه , أي انه يمتلك موهبة  ترعى فتنمو , في الرياضة او في الادب او الفن او في علوم السياسة وعلوم الحرب او في العلوم الصرفة او في أي ميدان من ميادين الحياة .

وهكذا تستقيم المعادلة لا بطل من غير موهبة , ولا بطل من غير تنمية تلك الموهبة ورعايتها , ولعل كل واحد منا يحتفظ في ذاكرته بعدد من أسماء معارفه الذين يشعر ان الأيام ظلمتهم وكان بالإمكان ان يكونوا ابطالا لو ان يد الرعاية تعهدتهم , وفي عالم الرياضة عشرات ربما مئات الأمثلة القريبة والبعيدة مكانا وزمانا .

Tags: No tags

Comments are closed.